المقدمة
إن موضوع حفظ القرآن الکریم في بلادنا جدید مقارنة بالعدید من الدول الإسلامیة. في تقییم موجز، سنلاحظ هذه النقطة البسیطة و المهمة و هي أن حفظة القرآن في المجتمع الإیراني یمرون بمرحلة إنتقالیة تاریخیة من فترة الإقبال العام الذي حصل علی القرآن بعد الثورة الإسلامیة و بعدها بدئوا بالدخول تدریجیا في المجال التخصصي و الإحترافي لحفظ القرآن.من الضروري تقییم التقدم النوعي و الکیفي لحُفاظ القرآن الأعزاء، في مراقبة دائمة و مستمرة من قبل أساتذة تحفیظ القرآن الکریم النخبویین و تحدید نقاط الضعف و القوة علی أیدیهم.ما لوحظ کثیرا في السنوات الأخیرة أنه بسبب تزاید أعداد الراغبین بحفظ القرآن، و من ناحیة أخری بسبب قلة الأساتذة ذوي الخبرة في هذا المجال، ضاعت الکثیر من المواهب. و معظم الراغبین بحفظ القرآن لم یحققوا أهدافهم بسبب قلة المعرفة الصحیحة بفنون و لطائف هذا العمل. إما أنهم لم یکملوا حفظ القرآن و إما أنهم بعد بذل الکثیر من الطاقة و الضغط علی الذاکرة، حفظوا أجزاء من القرآن، لکنهم إلی الآن ما زالوا یعانون من ردائة مستوی حفظهم و کذلک من إرتباکهم الذهني عند مراجعة محفوظاتهم.إن معرفة نوع ذاکرة کل طالب و التعرف علی نقاط ضعفها و قوتها، و کذلک التقییم و التحلیل المستمر لعملیة نمو ذاکرة طالب القرآن، بالإضافة إلی إنشاء موازنة بین قوة الترکیز المتناسبة مع قدرات ذاکرة ذلک الطالب، و کذلک خلق جو محفز و نشط في التمارین، و توجیه ذاکرته نحو فهم الآیات بدلاً من الحفظ الظاهري، إضافة إلی موضوع نقش صُوَر سطور المصحف في الذهن، لهي من أهم واجبات الأساتذة الکرام في تحفیظ القرآن الکریم.إثر ذلک، فإن مستوی نوعیة حفظ الأستاذ، له تأثیر مباشر نوعیا و کیفیا علی مستوی تطور التلمیذ. و في هذا الإتجاه یجب علی الأستاذ أیضا التجدید بإستمرار في تحسین جودة حفظه. في هذا المجال، جرت محاولة للإشارة بإیجاز إلی أهم النقاط الأساسیة اللازمة للبدأ في حفظ القرآن بسهولة و نشاط، کي یتعرف الراغبون الأعزاء و المهتمون بحفظ القرآن، علی العمل المتخصص في مسار حفظ القرآن الکریم. یجب أن أقول بأن کثرة الملاحظات، و وفرة النقاط، و کذلک الظرائف المتعلقة بالتنقل بین الآیات و تنظیم الذاکرة و تحسینها، تتطلب عشرات الصفحات من الکتابة والشرح، لکن القراء الأفاضل لهذا الخطاب سیتمکنون من فهم القضایا المطروحة في هذه المقالة.
حفظاً سهلا، عملیا و دائما للقرآن الکریم
1) عدم إشتراط لحن الترتیل في حفظ القرآن الکریم
یجب العلم بأن التلاوةالمرتلة سواء کانت تقلیدیة أو من إبداع الشخص، (خلافا للرأي العام) لیست شرطا أساسیا لحفظ القرآن الکریم. بعبارة أخری، لا ینبغي إعتبار الصوت الجمیل و التلاوة المرتلة شرطا أساسیا في أذهان الراغبین في حفظ القرآن. و قد أثبتت التجارب أن الخلط الإجباري بین حفظ القرآن و التلاوة المرتلة یلحق أضرارا بعملیة الحفظ والذاکرة و المحفوظات لدی الطالب. یُذکَرُ بعضها أدناه:
الف – إهدار الوقت: تخیلوا إثنین من حفظة القرآن، أحدهما یکرر حفظه بأسلوب الترتیل والآخر یکرر حفظه بطریقة بسیطة و سلسة و بطلاقة، أي بأسلوب المحاورة کالمتحدث أو الخطیب إذا جاز التعبیر. یجب أن یقضي الشخص الأول ساعة واحدة علی الأقل في تکرار کل جزء من محفوظاته، بینما یقضي الشخص الثاني من 20 إلی 30 دقیقة في مراجعة کل جزء. هذا یعني أنه في الإطار الزمني الیومي والأسبوعي والشهري، یکون الشخص الذي لا یراجع محفوظاته بأسلوب الترتیل، قد راجع أکبر حجم من محفوظاته، و علی المدی البعید أیضا سیحصل علی جودة أفضل في الحفظ، و في الوقت نفسه، ستکون له کفاءة أفضل في إستخدام الطاقة و إدارة الوقت.
ب – التعب الحنجري: یؤدي تکرار المحفوظات لساعات بأسلوب الترتیل، إلی إرهاق الأحبال الصوتیة والعضلات الموجودة علی جانبي الحنجرة بشکل مفرط أو حتی ممکن أن تسبب أضرار جسیمة بالحبال الصوتیة. سینتشر هذا التعب الجسدي ببطء إلی الإرهاق الذهني و سیؤثر علی ترکیز و طاقة الحافظ. الحافظ الذکي هو الشخص الذي یدیر إستهلاکه للطاقة الجسدیة والعقلیة في الروتین الیومي بکفائة و لا یسمح لأي ضغط غیر ضروري علی ذاکرته. لذلک لیس من الضروري أن تکون المراجعات بأسلوب و لحن الترتیل، بل یجب أن تکون سلسة و مرنة و بدون أي ضغط علی الأوتار الصوتیة. یجب أن تکون علی شکل المحاورة الخفیفة.
ج – عدم التوازن الذهني بین الحفظ والترتیل: أثبتت التجارب أن الحُفّاظ الذین یختارون طریقة التلاوة المرتلة في حفظهم أو في تکرارهم و مراجعتم لمحفوظاتهم، فإن عقولهم أثناء ذلک، تشارک في مسألتین في آن واحد:الأولی التحکم في الحفظ والأخری الإنتباه إلی نبرة و لحن الترتیل، لذا، فإنهم عملیا لن یکون لدیهم لا ترتیلا حسنا و لا حفظ جیدا. و هاذان الأمرانن سیکونان دائما في إشتباکات مع بعضهم البعض أثناء الحفظ.
2) الحاجة إلی إستخدام الذاکرة التصویریة (البصریة)
وفقا لأحدث الأبحاث العلمیة، فإن 80% مما یدرکه دماغ الإنسان و یحلله و یخزنه هو من خلال العین. فلماذا یصر المهتمون بحفظ القرآن الکریم في بلادنا علی الذاکرة السمعیة؟ لماذا یصرون علی إرسال و تسجیل الآیات في ذاکرتهم دون تقویة ذاکرتهم البصریة و أحیانا بمساعدة أسطوانات و أقراص التلاوات المرتلة فقط؟ هذا سؤال جاد. لماذا عندنا في البلاد یتم إستخدام العین بشکل محدود و غیر مکتمل أثناء حفظ القرآن؟ مع العلم أنه عندما یکون لدی الشخص الحافظ، صورة غیر مکتملة في صورته الذهنیة للصفحات التي یقرأها، فإنه سیعاني بالتأکید من إضطرابات مثل: القلق، تخطي الصفحة، الشک، النسیان، الإنتقال إلی الآیات المماثلة، التوتر، إنعدام الثقة بالنفس، الیأس من الوصول إلی الحفظ الکامل، الإرهاق الذهني، إلتباس في تذکر العبارات، والعدید من المشاکل المحتملة المزعجة الأخری. أظهرت سنوات من الخبرة أن الإعتماد علی الذاکرة السمعیة، و علی سبیل المثال، صوت قاریء مصري أو إیراني أو أیا کان، لن یکون قادرا علی إنشاء أساس قوي لحفظ الآیات في ذاکرة الطالب. و إذا لم یتم تثبیت صورة واضحة لنص المصحف في ذهنه، فسوف یلجأ إلی ممارسة الکثیر من الضغط علی ذاکرته لیتذکر نغمة القاریء الفلاني حتی یتمکن من قراءة الآیات.
3) أثر الترکیز علی تحسین جودة المحفوظات
ذلک الجزء من الدماغ المسئول عن التحکم و الذي یسمی بعبارة أخری بقائد العقل، یُعرف عامةً بالترکیز. بعبارة مبسطة، الترکیز یعني الإرادة العقلیة لدی الحافظ للبقاء علی المسار المتعلق بالقرائة الصحیحة للآیات أثناء التلاوة. قبل أن یفکر الحافظ في تقویة ترکیزه، علیه أن یعرف جیدا الأضرار و المشتتات المتعلقة بترکیزه و أن یتخذ الإجرائات اللازمة لإزالة تلک العوائق. علی سبیل المثال: أثناء التمارین الیومیة، والتي تشمل حفظ آیات جدیدة أو تکرار الدروس السابقة، لا ینبغي للمرء أن یتوقع تعاونا من ذاکرة یطیر طائر الخیال فیها و یقفز من غصن إلی غصن. طالما أن الحافظ لا یفکر في إتخاذ إجراء لتلک الأفکار المزعجة، فإن الأفکار ذات الصلة و غیر ذات الصلة ستؤدي إلی تدهور القوة الذهنیة و تقلیل تقدم الذاکرة و تعطیل الأداء الیومي للطالب. لتحسین الترکیز، یتم إقتراح حلین بسیطین و لکن عملیین: ضع نفسک في وضعیة البدأ بتمارینک الیومیة، وافتح المصحف الذي تحفظ به، وابدأ کأنک جاهز لمهام الحفظ، لکن لا تبدء. فکر بما تفکر به الآن. تحکم في عقلک. علی سبیل المثال: إذا کان علیک القیام بشیء یشغل بالک الیوم مثلاً إن کنت تحتاج إلی الإتصال بشخص مّا، أو زیارة مکان مّا، قم بتدوین هذه الأشیاء في دفتر صغیر و قل في نفسک مخاطبا ذلک العمل: سأتابعک في الوقت المناسب. هذه الکتابة، ستجعل تلک المواضیع المبعثرة لا تربک عقلک و لن تخلق مطبات و عقبات سریعة لذهنک أثناء التمارین. الإقتراح الثاني هو خلق الحس الروحي مع حضور القلب قبل البدأ في حفظ آیات القرآن. فکر في العمل النبیل و المهم الذي ترید القیام به، إفتخر بنفسک واجعل روحک و جسدک تدرک أنک في وجود کتاب رفیع المستوی و عظیم. تذکر إحترام و أهمیة هذا العمل العظیم في قلبک. من خلال هاتین المهمتین البسیطتین، أي إدراة الأفکار و الشؤون الیومیة واکتساب حضور القلب الروحي قبل البدأ بالتمارین، ستتمکن من زیادة جودة تمارینک الیومیة و ستتجنب العمل الإضافي و إضاعة الوقت.
4) الشروط اللازمة لمکان و وقت الحفظ
یجب إختیار مکان و وقت الحفظ بشکل جید. الأفضل أن یکون مکان الحفظ ثابتا. و یقترح أن یختار الحافظ زاویة أو رکنا مریحا من المنزل کمکان دائم للحفظ. المکان المناسب لحفظ القرآن هو المکان الذي یقوي الذهن و یزید من راحة البال. لون البیئة، أبعاد و مساحة المکان، نوع الإضاءة والتکییف، کلها عوامل فعالة في جودة التمارین الیومیة. یجب أن یکون هناک صمت في مکان الحفظ. لا ینبغي أن تکون هناک حرکة و ضجیج. من الممکن أن یؤدي التحدث مع الآخرین أو الإستماع إلی حدیث الآخرین أثناء ممارسة التمارین الیومیة إلی الإرتباک الذهني و القفز في الترکیز و إهدار طاقة الحافظ. الوقت المناسب لحفظ القرآن هو أیضاً مسألة شخصیة. إن تحدید و تعیین أفضل وقت لحفظ القرآن لا یمکن أن یکون إقتراحا عاما للجمیع. لا یستحسن لمحفظ القرآن أو الأستاذ أن یفرض علی طلابه وقتا معینا في صیغة أمر. یختلف الوقت الأفضل لعملیة الحفظ، باختلاف الأشخاص، و لکن یمکن تقدیم معیار عام و صحیح في إختیار أفضل وقت للحفظ الیومي، و هو أن أفضل وقت للحفظ هو عندما یکون لدی الشخص أعلی درجة من الإستیعاب والإستعداد الذهني لحفظ الآیات.
5) أثر النظام في تقویة الذاکرة واستمراریة المحفوظات
یقول الإمام علي (ع): (اوصیکم بتقوی الله و نظم أمرکم). المثابرة والنظام هما أساس أي تقدم، خاصة في الأمور الحساسة مثل حفظ القرآن الکریم. إذا لم یکن هناک إنضباط و مثابرة، فلن تتعزز ذاکرة المرء. إن عدم الإنتظام و عدم التخطیط یجعل الحافظ یعاني من إضطرابات في الحفظ. لسوء الحظ یصر العدید من الحُفّاظ، علی تکدیس المحفوظات في أدمغتهم فقط. بعبارة أخری: زادت محفوظاتهم و لکن في المقابل لم تتعزز الذاکرة لدیهم. ما یقوي الذاکرة هو النظام والإستمراریة في العمل. علی سبیل المثال، إذا مرض شخص و لم ینفذ الوصفة العلاجیة بشکل کامل و لم یکن منتظما، في المقابل، لا ینبغي له أن یتوقع الشفاء. إذا أظهر الحافظ إنقطاعا في عملیة حفظه للقرآن، حینها لا یجب أن یتوقع التحسن في ذاکرته. بالإضافة إلی ذلک، فإن المثابرة و الإنضباط لهما تأثیر مباشر علی دیمومة المحفوظات في المدی الطویل. کم من الراغبین و المتحمسین الذین توقفوا عن إکمال مسار الحفظ بسبب عدم الإنتظام، بالرغم من مواهبهم. (خیر الأمور أوسطها)
6) إساءة إستخدام التکرار عند إرسال الآیات إلی الذاکرة
یستخدم بعض الحفظة، التکرار المفرط والخاطیء أثناء عملیة تخزین و تسجیل الآیات في ذاکرتهم ! و یصرون علی هذا الأمر. إن حفظ القرآن لیس فقط مجرد التکرار والضغط علی الذاکرة. نری أحیانا الحافظ یکرر الآیة أکثر من 10 و 20 مرة و یدمر طاقته الدماغیة و یتلفها في وقت مبکر من بدأ العمل. فکما أن العمل الغیر منتظم و عدم المثابرة یؤدیان إلی التوقف و تقلیل جودة المحفوظات، فإن التکرار الغیر منتظم و المفرط أیضا له آثاره السلبیة الجانبیة. سأذکر بعضها: إضطرابات في ترتیب و تسلسل الآیات في الذاکرة، التعب الشدید، الصداع المزمن، الإرهاق و الشعور الزائف بتشبع الذاکرة، تشابک الآیات، زیادة التوتر و تضییع الوقت المفید في حفظ القرآن الکریم و… إذاً ؛ لا التطرف و لا الإسراف لا یجدیان نفعا و یصنعان المستقبل.
7) التعرف علی خصائص الذاکرة قصیرة المدی و طویلة المدی و نوع العلاقة بینهما
لکل إنسان نوعان من الذاکرة. قصیرة المدی و طویلة المدی. یتم تخزین معظم الإدخالات العقلیة للبشر في الذاکرة قصیرة المدی و بعد فترة قصیرة تختفي من العقل أو تتلاشی. إن إرسال الآیات إلی الذاکرة طویلة المدی أو الذي نسمیه أرشیف الدماغ، یجب أن یتم بشکل تدریجي و بصبر و تأني. و یجب أن یکون بنیانه علی أساس تقویة الأجزاء المختلفة المتعلقة بمبادیء و أصول حفظ القرآن الکریم. یجب العمل علی نقش صورة الصفحة القرآنیة لبعض الوقت بشکل یومي و ذلک عن طریق التمرین والتکرار الهادیء و المرن، صفحة بصفحة و بعید عن الإستعجال و الضغط علی الذاکرة. و کذلک تعزیز الفهم الحسي لمعاني و مفاهیم الآیات. بعد العمل بهذه النقاط، سیشعر الحافظ بعد فترة أن بإمکانه إستخراج آیات تلک الصفحة بثقة و من ذاکرته طویلة المدی. إن خاصیة الذاکرة طویلة المدی هي أنها تقضي علی مشکلة التخبط في تذکر واستحضار الآیات مقارنة بالحفظ المبني أساسه علی التکرار الممل و المفرط. و تقضي أیضا علی حالة تفلت الآیات من الذاکرة، و هذا بالتحدید هي الفترة التي یبدأ الحافظ فیها باستعادة الثقة بنفسه و بمحفوظاته و عند ذلک سیستطیع أن یستحضر الآیات بسهولة و متی ما أراد. في الواقع، الذاکرة قصیرة المدی هي بوابة للذاکرة طویلة المدی. و لا ینبغي للمرء أن یتوقع تثبیت الآیات في العقل دون المرور عبر التسلسل الهرمی المذکور. بعض الأضرار الشائعة في الذاکرة قصیرة المدی هي: نسیان بدایة الآیات، عدم وضوح صورة الآیات، القفزة المفاجئة في الترکیز عند إستخراج الآیات، نسیان أجزاء من الآیات الجدیدة، الشعور بالإرهاق الذهني، الشعور بعدم الثقة في الذاکرة، کل هذه الإضطرابات یجب حلها بالطرق الصحیحة و تحت إشراف أستاذ خبیر. بعض الأضرار العامة للذاکرة طویلة المدی هي: الضعف في رسم الخرائط الذهنیة للآیات أثناء السؤال والجواب، الإنتقال إلی الآیات المشابهة و الغیر مشابهة، صورة غیر مکتملة للصفحة و ترتیب الآیات، عدم قدرة العقل علی تسلسل الموضوع و ترتیب مفاهیم الآیات أثناء التلاوة، و أخیرا تشتت و فقدان الترکیز في تکرار و مراجعة المحفوظات. یعتبر التعرف علی إضطرابات الذاکرة طویلة المدی و طرق تصحیحها مسألة دقیقة و حساسة یجب القیام بها تحت إشراف أستاذ محترف، لأن لیس لها وصفة عامة بأي شکل من الأشکال، لذا یجب تجنب إعطاء توصیات عامة أو نصائح غیر فعالة. أوصي الحُفّاظ الکرام بحضور دروس أساتذة تحفیظ القرآن الکریم.
8) الإلمام بالمفاهیم، داعم لتثبیت المحفوظات
یظهر الدماغ البشري، قدرة محدودة للغایة علی الإحتفاظ بالآیات التي لم یفهم معناها بشکل صحیح. یجب أن یقترن حفظ القرآن من الیوم الأول بالعمل علی المفاهیم و فهم ترجمة العبارات و الآیات. لقد لوحظ أن الکثیرین ممن أقدموا علی حفظ القرآن دون الإحساس بالمسئولیة تجاه فهم الآیات، و حفظوا القرآن بطریقة مرهقة و خالیة من الروح، أنهم بعد أن حفظوا أجزاء من القرآن، وصلوا إلي مرحلة ما یسمی بالعامیة إنغلاق الدماغ أو التعطیل الکامل للدماغ. إن عملیة حفظ القرآن عملیة معقدة و إذا أزیل عنها تعلم المفاهیم، النتیجة ستکون الضغط الشدید علی الذاکرة. إن فهم المعاني و المفاهیم یشکل جزئا کبیرا من التقدم الممتع في عملیة حفظ الآیات الجدیدة. کما أن الإلمام بالترجمة و المفاهیم یساعد في تذکر الآیات و تکرارها لدی الحافظ و یؤدي إلی إزالة الضغط عن الذاکرة و یحول الحفظ المنطوق إلی حفظ منطوق مفاهیمي. کذلک، و من خلال التعامل مع المفاهیم، تتضاعف جاذبیة حفظ القرآن الکریم و یزداد حب الحافظ واهتمامه بحفظه. التأثیر الثالث الذي أود التأکید علیه هو أن إتقان ترجمة الآیات و مفاهیمها یقلل من حاجة الذاکرة لتکرار الآیات، و کلما زاد ثراء المحفوظات، تضاعف في المقابل دوامها في الذاکرة. النقطة الأخیرة هي أن حفظ القرآن أساسا، یعتبر مقدمة لفهم القرآن، لذلک إذا کان أسلوبنا في الحفظ لا یلبي هذا الهدف المقدس، فیمکن القول أن المسار الذي إختاره الحافظ، بعید عن تعلیمات و مطالب القرآن الکریم.
9) دور التقییم الفني لعیوب و أخطاء الحفظ أثناء التکرار من أجل تحسین ثراء التکرار و دوام الحفظ
یجب أن یکون لکل حافظ، دفتر لتسجیل الأخطاء. في هذا الدفتر یجب تدوین ثلاثة أنواع من الأخطاء الحفظیة، والتي سیتم ذکرها أدناه. قبل ذلک، یجب أن نعلم أنه من الخطأ الإعتماد فقط علی التکرار لتصحیح أخطاء الحفظ عندنا. ما لم یتم تسجیل الأخطاء و إصلاحها، فإن إحتمالیة بقائها علی حالتها سیکون قائما عند الحافظ. إن تسجیل الإشکالات في التمارین الیومیة و مراجعتها بشکل منفصل، ستعمل علی تنشیط الحکم العقلي الذاتي داخل الشخص الحافظ و ستحسن من إدارته لمحفوظاته. هناک ثلاثة أنواع من الإشکالات التي یجب معالجتها بشکل منفصل و إجراء تمارین خاصة علیها. هي باختصار:
الف. مشکلة الخطأ الحفظي القصیر مع صرف وقت طویل لتصحیحه: مثلا لنفرض أن الحافظ عند مراجعته لحفظه، ترک کلمة (قالوا)، لکنه قضي عدة ثواني في تذکرها أو تصحیحها. هذا النوع من الإشکالات یجب تسجیلها في دفتر الأخطاء.
ب. مشکلة الخطأ الحفظي الطویل مع صرف وقت طویل لتصحیحه: مثلا نسی الحافظ عبارة تتکون من عدة کلمات، أو أضاف إلیها أو أدخل الآیة في أیة أخری تشبهها و لکنه صرف وقتا طویلا لیصحح ذلک الخطأ. هذا الخطأ أسوأ من النموذج الأول و یجب تسجیله و معالجته بشکل منفصل.
ج. مشکلة الخطأ الحفظي الطویل مع صرف وقت قصیر لتصحیحه: في هذه الحالة، تمت القرائة في بعض الحروف و الکلمات بإضطراب و خلل ، لکن تم تصحیحها بسرعة و دون قضاء أي وقت خاص. هنا أیضا، إذا کان الخطأ في جملة طویلة أو آیة، بإعتبار أنه أخطأ، حتی لو صححها بسرعة، فعلیه أن یسجل الخطأ و یقوم بتمرین منفصل علیه.
المشکلة الرابعة في الحفظ والتي لا تحتاج إلی التسجیل في دفتر الأخطاء، هي أن الخطأ یقتصر علی کلمة واحدة و تم تصحیحها بسرعة. نقطة أخری و هي أن الحُفاظ یجب أن یعلموا أنهم عندما یخطئون في حفظهم، فإن أسوأ شیء یقومون به في تلک اللحظة هو النظر السریع و من غیر عنایة و لا ترکیز إلی نص المصحف، بعبارة أخری، أن یعطوا أعینهم و ذاکرتهم فرصة الغش. إذا ارتکبوا مثل هذ الخطأ، فإن ذاکرتهم لن تتعزز و ستبقی دائما معتمدة علی نص المصحف. النقطة الأخیرة هي أن الحافظ الذکي هو الشخص الذي یأخذ التقییم العقلي و الحکم اللحظي في إشکالات الحفظ، علی محمل الجد و یفکر بعنایة و یکتشف لماذا و لأي سبب أخطأ في تلک الآیة.
10) دراسة و فحص أهم الشکیات التي تعتری الحافظ
أحیانا یحصل لدی الحافظ عندما یراجع محفوظاته أنواعا من الشکوک و یبقی مترددا. بإختصار، الشکیات العارضة علی الذاکرة هي من ضمن إحدی هذه الحالات الأربع:
أولا – الشک قبل تلاوة الکلمة أو الجملة المعنیة: مثلا أن یقرأ هذه الآیة (و قال الملک ائتوني به فلما)ثم یحصل له شک بعد (به) هل التي تأتي بعدها (فلما أو ولما).
ثانیا – الشک وسط التلاوة: یعني أنه أثناء التلاوة، یتوقف فجأة و یفکر هل ما قرأه کان صحیحا أم خطأ؟ مثلا کما في الآیة، عندما یقرأ (فلما کلمه قال)، یشک للحظة بأنها ربما تکون (و لما) و لیست (فلما).
ثالثا – الشک بعد الإنتهاء من الآیة. یعني عندما ینتهي من الآیة یشک في صحة تلاوته للآیة التي کانت تسبقها.
رابعا – الشک في أصل الکلمة: مثلا في الآیة التي ذکرناها، الحافظ لا یشک في (فلما) أو (و لما)، و لکنه یشک في وجود أصل الکلمة و هل أصلا موجودة أم لا؟ في الحقیقة شک الحافظ هنا لیس بین کلمتین بل في أصل وجود تلک الکلمة.
یأتي النوع الأول من الشک عادة من رداءة جودة الحفظ و ذلک لأسباب مختلفة مثل عدم إستخدام طریقة الحفظ الصحیحة، التکرار الغیر منتظم، تشتت الترکیز أثناء التمارین الیومیة، والضغط غیر الضروري علی الدماغ أثناء التمارین. لکن النوع الثاني من الشک یرجع عادة إلی عدم الثقة بالنفس، الإجهاد أو الإرهاق العقلي، أو الوسواس. أما في النوع الثالث یعاني الحافظ عادة من ضعف و قفزة شدیدة في الترکیز أو إنه لا یتقن و لا یعرف معاني و مفاهیم الآیات. في النوع الرابع، یأتي الإشکال عادة من أن الحفظ لم یتم بشکل واضح و دقیق و جید و أن الحافظ لیس لدیه في ذهنه صفحة واضحة جلیة لنص القرآن، لذا یشک في الکلمات المتشابهة، أو إنه حفظ القرآن معتمدا علی الذاکرة السمعیة، أو أن حفظه کان غیر منتظم و مبعثر و متقطع. بشکل عام، الحل الرئیسي لهذه الفئات الأربع من الشکوک العارضة علی الذاکرة هي أن الحافظ لا یجب أن ینظر إلی المصحف علی الفور في لحظة الشک. یجب علیه أولا أن یصمت و یفکر جیدا و یحاول أن یحفز ذاکرته و یتذکر الآیة. حتی في هذه الحالة لا یحق له الغش و النظر إلی الآیة. بل علیه أن یرجع إلی أول الآیة التي قرأها. ثم یقرأها مرة أخری ببطیء. و لا یفکر بنسیانه و الآیة التي نسیها و لا یفکر أیضا بضعف حفظه. بل أن یعید قرائة الآیة بصورة طبیعیة و من غیر توتر. إذا فعل هذا بشکل صحیح، ستجد کلمات الآیة بعضها البعض في ذهنه بمساعدة الذاکرة التسلسلیة و ستتسبب في إختفاء الشک و النسیان. أما إذا قرأ الآیة مرة أخری و الشکوک ما زالت کما کانت، هنا یجب علیه فورا و بدون أي ضغط مفرط، النظر إلی المصحف و أن یتذکر ضعفه في الحفظ بإحیاء الصورة و تقییم مفاهیم الآیة. یجب أن نعلم أن التشتت الذهني و الأفکار المتشابکة في الدماغ، ستزید تلقائیا من الشکوک و النسیان و سائر إضطرابات الذاکرة. لذلک، قبل البدأ ببرنامج الحفظ الیومي، یجب أن نهییء الذاکرة و نقوم بإزالة جمیع الإضطرابات الذهنیة من مسار التمارین.
11) أنواع العلاقات بین خواتیم الآیات و مضمون الآیات
في النظرة العامة، فإن دور الجُمل الأخیرة لآیات القرآن الکریم دور زخرفي و مکمل. لکن هذا خطأ. یجب أن یعرف الحفظة الکرام أن هناک علاقة تفسیریة وثیقة بین الجملةالأخیرة من الآیة و محتوی و معنی تلک الآیة. و أکثر المواضع التي توقِعُ الحُفاظ في الأخطاء هي خواتیم الآیات.
والطریقة الصحیحة لحل هذه المشاکل هي إکتشاف معنی العلاقة بین خاتمة الآیة و موضوعها و مضمونها، و تقویة الصلة بین الآیة و نهایتها في العقل. تنقسم العلاقة بین الجمل الأخیرة من الآیة و نص الآیة إلی ثلاث فئات من حیث المستوی التفسیري.
واحد – علاقة سهلة و بسیطة: في العدید من الآیات، و مع قلیل من الإهتمام و إتقان الترجمة و المفاهیم، یمکن إکتشاف العلاقة بین الجملة الأخیرة والمعنی العام للآیة، و من ثم حفظ تلک الآیة. مثلا في هذه الآیة الکریمة (قالوا سبحانک لا علم لنا إلا ما علمتنا إنک أنت العلیم الحکیم). الملائکة یخاطبون الله و ینفون عن أنفسهم العلم و ینسبون العلم إلی الله و یثبتون المعرفة له فقط، لذلک تنتهي الآیة بصفات العلیم و الحکیم التي تتناسب مع موضوع الآیة. إذا وضع الحافظ الدقة في المفاهیم ضمن أولویاته، فإن ثبات العبارات النهائیة سیترسخ في ذهنه و سیصبح کالفولاد.
إثنان – علاقة عمیقة و دقیقة: في هذا النوع من الآیات، یتطلب إکتشاف العلاقة بین الجملة الأخیرة من الآیة و موضوع تلک الآیة فهما أکثر و دراسة أعمق لمعنی الآیة. مثلا في هذه الآیة: (و إذا علم من آیاتنا شیئا إتخذها هزوا أولئک لهم عذاب مهین). لماذا جائت کلمة (مهین) في نهایة الآیة؟ هل جائت بلا دلیل أو بالصدفة؟ کلا، بالتفکیر في معنی الآیة، سنعرف الدلیل. بما أن هدف الشخص المحکوم علیه في هذه الآیة، کان الإستهزاء بآیات القرآن أمام الناس، أورد الله تعالی، (عذاب مهین). إذاً فإن بالتدبر نستطیع أن نرفع مستوانا في حفظ القرآن الکریم
ثلاثة – علاقة تفسیریة وثیقة: في بعض الآیات، یتطلب إکتشاف الرمز المفاهیمي للجملة الأخیرة مع معنی الآیة التمکن من التفسیر الدقیق. للوهلة الأولی، لا یوجد إرتباط خاص بین نهایة الآیة و نصها. بالمناسبة، في هذا النوع من الآیات، تکمن بلاغة کلام الله و جمالها إلی حد أن المفسرین یقدمون تفسیراتهم الخاصة من جمال تلک الآیات. مثلا: (ما خلقکم و لا بعثکم إلا کنفس واحدة إن الله سمیع بصیر). للوهلة الأولی، لا توجد علاقة بین الجملة الأخیرة و موضوع الآیة. لماذا استخدم الله صفات السمیع و البصیر في مسألة الخلق و القیامة؟ سبب هذه العلاقة باختصار هو: أثار المشرکون إعتراضَین، الأول علی إحیاء الموتی و الثاني علی محاسبتهم یوم القیامة. أولا، شککوا في قدرة الله و قدرته علی إحیاء ملیارات البشر بعد الموت، و ثانیا، شککوا في فدرة الله علی محاسبة الخلق بعد آلاف السنین. لذا فإن القسم الأول من الآیة: (ما خلقکم و لا بعثکم إلا کنفس واحدة) تأتي جوابا علی إشکالهم الأول. و (إن الله سمیع بصیر)ردا علی إشکالهم الثاني. بعبارة أخری و من باب (الشاهد هو الحاکم)، یعني أن التحقیق في قضیة أفعال البشر و إحیائهم بعد موتهم و محاسبتهم، في ید ذلک الإله الذي یسمع الجمیع و یری کل شیء و قد رأی کل تلک الأفعال لحظة ارتکابها، لذلک لن یکون هذا التحکیم و التحقیق صعب علیه بأي شکل من الأشکال لأنه هو الشاهد و هو الحاکم. لذلک، فإن الإرتباط بین الجملة الأخیرة من الآیة و نصها هو في الواقع إستجابة و ردا علی إشکالین من جنس واحد.
في الختام أود أن أذکر بإیجاز بعض الموضوعات المهمة في تکوین بنیة الحفظ الإحترافي للقرآن: أهمیة وجود طریقة عملیة و دائمة في حفظ القرآن، المثابرة، الترتیب، الدقة، تقویة الترکیز، الإهتمام بالمفاهیم، إختیار خصم الممارسة الجید، الأمل والتحفیز، التکرار المنتظم، الحضور في الجلسات المتخصصة لتحفیظ القرآن الکریم، محاکاة المسابقات في المنزل، إستخدام تجارب کبار حفظة کتاب الله، تجنب أی تطرف من إفراط و تفریط، معرفة نوع الذاکرة الشخصیة، إختیار حجم الحفظ الیومي حسب المقدرة و الموهبة، تجنب الأسالیب الغیر مجدیة و ردیئة الجودة، تجنب أي ضغط غیر معقول علی الحبال الصوتیة، إفراغ الأفکار غیر المترابطة و المشتتة للترکیز أثناء التمرین.
الکلمة الأخیرة: إن حفظ القرآن توفیق عظیم و نعمة کبیرة والمحافظة علی هذه النعمة تزید من توفیقات و نجاحات حافظ القرآن.
خادم القرآن الکریم
علي رجبي
2013
بدون دیدگاه